نبتة



ربما كنت نبتة في حياتي السابقة و ليس قطة كما ظننا جميعاً.

أفتح شيش الغرفة لأدخل بعض الضوء للشجرة الصغيرة بورقها الناعم و أنظر على هضبة الملابس على الفراش، بدلت فراشي الصغير بفراش أكبر ليسع كل ما خزنت من أشياء بداخلي، لأفترشه و أنتشر فيه و لكني بفعل العادة تركت نصف لي و نصف لملابسي و كتبي.

بجانبي كتاب "خارج المكان" لإدوارد سعيد.

بالأمس، فضلاً عن المراجعة للإمتحان الذي درست فيه سيرة سعيد الشخصية، جلست أتخيل نفسي في عالم أخر و زمن أخر، طالبة دكتوراة مغتربة في أمريكا قابلت سعيد و هو شاب وسيم و بلا مأوي و بلا وطن. أتخيل نفسي أتعرف على هذا الشاب و أتخيل علاقتنا و حوارتنا عن كل شيء عن الأكاديمية و أتخيل مكان ليس بمكان مع شخص قد تحدد سيرة حياته - التي إنتهت - جزء من درجة الدكتوراة المنتظرة.

الدكتوراة التي قد تأتي و لو بعد حين.

و في ظل التفكير في كل السنوات التي عليّ قضائها للإنتهاء من تلك الرسالة أفكر في تلك النبتة التي تبنيتها و قررت إنني بحاجة إليها في حياتي، هي و أخريات، ملأت بهم المنزل و يوم بعد بدء علاقتنا الجديدة قلت لحبيبي أنني أفضل العودة للمنزل للجلوس وحدي مع نبتاتي الجديدة عن أي شيء أخر لأنني شعرت حينها أن العالم مكان شرير.

أصبحت أفكر في نباتاتي أكثر مما أفكر في مستقبلي المهني و أكثر مما أفكر في وزني الزائد و أكثر مما أفكر في جدتي التي أحبها أكثر بكثير عن القدر الذي أستطيع البوح لها به و التي أصبحت عجوز فجأة و صرت أنظر لها و أنا لا أريد أن أصدق إنها باتت لا تستطيع النزول من على الرصيف بدون معاناة حقيقية و خوف من التعثر ، و أكثر من أمي التي أفتقد صوتها التي قررت أن تحرمني منه بقرار أن لا تتحدث معي كعقاب.

لا أتكلم مع نباتاتي لأن ماما لا تتحدث معي، لكنني أصبحت أفكر فيهم كلما شعرت بالضيق الذي أصبح يسبب آلم لم أعد أحتمله في بطني.

رأيت نبتة ريحان هذا الصباح و تذكرت رحاب و النص الذي كتبته عن الريحان الذي سمعت عنه دون قراءته. ذهبت رحاب إلى إنجلترا و معها إبنها الذي يضخ السعادة في يومي كلما قابلته، ذهبت رحاب من هنا لتعيش هناك لأن هذا أفضل لشريف. نكره ذلك لكننا نعرف مدى حقيقته. سافرت رحاب و لم اقرأ النص حتى الأن. فكرت في ضم هذه النبتة لمجموعة نباتاتي الجميلات و لكني عدلت عن الفكرة. الأن أصبح الهدف زراعة النباتات و ليس فقط العناية بهم.


أقرر أن لا أشتريها و نمضي أنا و نهلة في طريقنا، سعداء بعصير القصب في الأكواب البلاستكية التي ستقينا من الصفرا و العدوى التي بقدرة القادر تفاديناها حتى الأن. و نتحدث عن المستقبل و خططتنا إذا قررنا أبداً أن نكون أمهات كأننا نتحدث عن شيء كاچوال. نتحدث عن المدارس و التعليم الذي حصلنا عليه في المدراس التي قضينا فيها طفولتنا و كم تخيفنا فكرة تعليم أطفالنا الذين قد لا يأتوا أبداً.


أعود للبيت و أجلس مع نباتاتي التي ليست في حاجة إلى التعليم و لا المدارس.

أبدء في كتابة هذا الذي لا أعرف له عنوان و لا أعرف له تصنيف – "genre trouble" – أنا من هؤلاء الذين لا يعرفون التعبير دائماً بالعربية و ها أنا أكتب بالفصحى التي نادراً ما شعرت أنها تعبر عني و عن ما أريد قوله، ربما لأني متأثرة بفرح التي تكتب بالفصحى و تعرفها جيداً ككف يدها و التي سترحل لبضعة أشهر لتبعد عن هذا المكان و لو أمكن هذا الزمان.

أتحدث مع علي – ابن خالتي الجميل الصغير الذي لم يعد صغيراً – عن الحياة  و الغطس و الأهل و الرياضة و نتحدث عن الشعور بعدم أهمية نشر الأخبار، تحديداً الأخبار التي نقرأها و ننشرها على الفيس بوك ثم نأخذ قراراً صارماً بعدم التفكير فيها طوال اليوم.

غالباً علي عنده حق لكنني أظل أنشر الأخبار كأنني أعاني من حمى الشير، أظل أنشر و أطلب الرحمة من الله ثم أفتح بنتريست لأتصفح صور نبتة الفيسكوس التي أحلم بضمها لحياتي الصغيرة. أصبح ذلك حلمي الذي أعمل عليه الأن. ليس الدكتوراة و لا محاولة التحدث مع أمي أو تقضية أطول فترة ممكنة مع تيتا و لا حتى كتابة النص المسرحي الذي ينتظره مني أشخاص في القاهرة و في برلين و هو لا وجود له، و لا حتى برأسي، فقط أفكر في شجرة الفيكوس التي أصبحت أنظر بره نافذة التاكسي أو الأوبر بحثاً عنها في شوارع القاهرة التي ظننت نفسي أعرفها جيداً لكنني عرفت – بالمعرفة بوجود شجرة الفيكوس في هذا الكوكب الشرير – أنني لم ألاحظ كل شيء بها و بالتالي لا أعرفها على الإطلاق.

ربما أحب هذه الشوارع، لكنني لا أعرفها.

أبكي فجأة بعد قراءة خبر عن التحقيق مع أحد مات والده و هو رهن الإختفاء – الذي أصبح الكابوس الذي نحيا به و نتنفس عليه دون أحد منا البوح بيه خوفاً من تحقيقه. أليس هذا ما يقولون؟ إذا حلمتم بكابوس لا ترووه حتى لا يتحقق. و لكن ماذا و نحن نحياه؟

في اللحظة التي خطر على بالي الخاطر إن عدم رد باسم على التليفون قد يكون معناه ذلك، فكرت في كل سنوات صدقاتنا و مدى حبي له و ضمته الحنونة لكتفي ليقع تحت كتفه و يقول لي كلمات تريحني دائماً. كل الأفكار تلك تمر في ثواني. تمر كفكرة غبية مثل أنني أفكر إذا ما وصل شادي المنزل سالماً و أنا أعرف إنه هناك مع فيروز لأنني رأيته يدخل البناية و مضيت في طريقي، لكنني أفيق و أخاف من أن أفكر حتى في خوفي هذا و أفكر في كم أنا أحبه و أذكر نفسي بشيء يفعله يضحكني لأنام.

لا أعرف لماذا أكتب هذا و لماذا بالفصحى، أظل اسأل نفس الأسئلة و لا أبذل أي مجهود في الإجابة عليها. كما أفعل مع تلك الأخبار التي لا أعرف لماذا حتى اقرأها و أنا لا أفعل شيئاً حيالها – لا أعرف ماذا أفعل و لكن هذا مجرد إبتذال، التفكير في عدم قدرتنا على فعل شيء تجاه كل هذه الأشياء أصبح مبتذلاً. 

أقبل هوبي الذي يأتي ليجلس بجانب يدي و أنا أكتب هذا و يكتب هو "ؤبب" بكفه المشمشي الذي أضعه جانباً حتى أصل لحرف الذال ثم يحضن يدي اليسرى بكفيه الإثنتين و ينام. ربما هذا سبب جيد لأتوقف عن الكتابة لأنني لا أعرف لماذا أكتب و لأنني لا أريد إزعاجه، هذا القط الذي آتى إلى حياتي فجأة و أصبحت لا أسطيع تخيلها بدونه.

الأن، حالاً، قبل أنا أنتهي من كتابة الجملة السابقة، أخذ هوبي كفي الأيسر بين كفيه و ضمه إلى صدره أكثر ليريح رأسه على ذراعي و ينام و هو مستريح و آمن. لا أريد أن أحرك كفي الأيسر و لا أريد أن يشعر هوبي أبداً بعدم الأمان مثلنا نحن فكيف بي أنا أفكر في أطفالي أنا و نهلة؟ هوبي يقلق من صوت حركة الشيش المفاجئة. سأتوقف عن الكتابة ليرتاح هوبي و لتنبت نباتاتي و تصير حديقة أختبئ فيها من كل الشرور و تبقى علاقة حبي مع إدوارد سعيد أشياء صغيرة أفكر فيها حتى لا أفكر في نفس السؤال المستفز، لماذا أكتب هذا؟ لماذا أكتب هذا الأن؟ 




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

زيت على كانافا

The Madness of Mrs. Woolf

صورة يوسف