صورة يوسف


صورة يوسف

شجر المانجة مبيطرحش

ممكن أعمل أي حاجة عشان أرجع تاني لنص أغسطس وأكل مانجة معاك بعد الغدا، دلوقتي، موسم العويس خلص وعدى، وشجر المانجة مبيطرحش.

من ورا السلك، من شباك المطبخ، ورق شجرة المانجة باين بالرغم من التراب ومن صغر الشباك. مع إني مش دايمًا بفتكرك عند الحوض، حاسة بضلك هناك، حركة ايديك، تنهيدة من بتوعك، كلام عن المية اللي بتغلي ف مينفعش دلوقتي أعملك نسكافية. معرفش لو كل الحاجات دي حصلت في يوم ما بنفس الترتيب اللي أنا فاكراه دلوقتي، يمكن ده اللي الذاكرة بتعمله في الوقت اللي زي ده، وقت ما مبيبقلناش غير الذاكرة نعتمد عليه عشان نحاول نوصل لك.

أخر مرة وقفت عند الحوض كنت بغسل كبايات جديدة، شربوا فيها اللي جايين يعزوا، وهما أصلًا مش عارفين يعني ايه إن ضلك خلاص ميكونش عند الحوض اللي بينزل فيه تفل الشاي، محدش فيهم يعرف الشاي معاك، محدش فيهم مشي في نور ضلك.

كنت دايمًا بفكر إنك راجل بتاخد مساحة كبيرة من الفضاء، عشان إنت كده، حد كبير، راجل بياخد مكان عشان كل حاجة بتتعمل زي ما إنت عايزها، وعشان يكون في مكان لحكاياتك ولحاجاتك، وعشان الهيبة والضحكة والحنية دول كان لازم لهم مكان ومساحة. ودلوقتي بستغرب المكان الفاضي اللي بحس بيه جوه، المكان اللي أنت بتملاه، المكان اللي اخدته في حياتي بكل سهولة،
-         عمو، ممكن تتبانني؟
-         طبعًا يا حبيبة قلبي
-         مش لازم نعمل ورق بقى وكده
-         لأ ورق إيه خلاص بقى عندي بنت تالتة

دي ذاكرتي عن الحوار ده، ممكن يكون الكلام متقالش كده، ممكن الحوار يكون محصلش فعليًا، المشكلة إني مش فاكرة، مش فاكرة قلت لك ولا خليت ابتهال تقولك، ولا هو حصل كده، تبني بشكل تلقائي، بس أنا كنت بقول للناس إني قلت لك تتبناني وأنت وافقت وخلاص كده، كنت لقيت الأب الأفشخ على الأطلاق.

فكرة غريبة جدًا إن حد يكون له أب لمدة تلات سنين. كل ما أحس إن الوقت قاسي عشان مقضتش معاك وقت كفاية، عشان كنت عايزة وقت كمان، وإني كان مفروض أعمل حساب أي حاجة ف أكون موجودة أكتر، بفكّر نفسي بقد ايه كنت حاضر في حياتي التلات سنين دول، وإن وجودك في الحياة كان من أجمل الحاجات ومن أسباب البهجة، بس مش سعادة وبهجة عبيطة كده وخلاص، كان في تفاصيل الحياة العائلية اليومية، حاجات الباباهات وبناتهم. كنت بتفرج عليك إنت وابتهال وأحس إني بتعلم حاجة معرفتهاش أبدًا، حاجة عمري ما عملتها، أب وبنته، حاجة معرفتش معناها ولا مدى جمالها غير لما اتبنتني.

دلوقتي لما بفكر إن ابتهال جاية وإنت مش هنا مش بعرف أعمل ايه، حاسة إن في حتة مننا ناقصة، في ثالوث سندت عليه بظهري، وحسيت إن إحنا التلاتة سندنا وكان في حاجة كده مثالية وسهلة وتلقائية في وجودنا سوا، دلوقتي معرفش هنسند أنا وهي على ايه، هنسند على بعض، ده منطقي، بس بعد ما إنت مشيت حاسة إني مليش ظهر، مليش أب.

مش عارفة أصدق إني مش هلعب في شعرك تاني وأحاول أنعكشه ويفضل مسبسب كده وجميل، أنا حزينة أوي إنك مش هنا، حزينة إن حسك مش في الدنيا، ومهقورة إني مفهمتش وجع ده غير بعد ما خلاص إنت رحت: فكرة إن ضحكتك مبقتش خلاص بتوجع لي قلبي وجع رهيب.

المدينة كمان حزينة يا يوسف، حزينة عشان حسك مش في الدنيا، وسط البلد حزينة يا عمو عشان حاجات تانية بس جوايا، هي حزينة معانا، حزينة عشان أنت مش موجود. لما كنت بتبقى في دهشور وأعدي من صفية زغلول كنت بحسه شارع منغير حس، ومنغير طعم، وإنت خلاص في دهشور ومرواح صفية زغلول بيوجع القلب، والشجر بتاعك – الشجر المضلل قدام المحل وفوق العربية وعلى شباك الصالون – مش بيحنن على الواحد ولا بيقلل الوجع، في فقد يوسف حزن وكسرة قلب ملهاش زي.

عمري ما كنت بقولك يوسف، ولا كنت بقولك بابا، مع إن جوايا عارفة إن إنت أبويا، بس لما جالي التليفون، حبيبة قالت لي "جدي يوسف مات." بقى اسم موصول بزف الخبر، والخبر لحد دلوقتي بيرن جوايا وبحاول أغمض عينيا وأرجع بينا كلنا قبل اللحظة دي. تاني يوم، دخلت الأوضة عشان أقعد لوحدي وقعدت أحاول ألاقي ريحتك في الحاجات، بس مكنتش شامة حاجة. كلمت ايبتي وقعدنا نعيط شوية، كنت غضبانة أوي إن الناس دي كلها قاعدة بره وإنت مش موجود، دلوقتي مش غضبانة، بس مش حاسة حاجة، حتى وأنا بكتب مش عارفة الاقي كلام يشرح بحس إيه تجاه فكرة خسارتك، مفيش حاجة تشرح.

حاسة إني عايزة أنزل بليل وأمشي من صفية زغلول وأعدي وأوصل للنيل وأقعد عشان مش عارفة أعمل ايه تاني. المخيف هو إن الوقت بيعدي بسرعة جدًا، والمخيف إني حاسة إنك في دهشور وراجع، والمخيف إني بصحى كل يوم أفكر إني كان مفروض أكلمك، وقبل ما أنام بفكر إنه كويس إني عمري ما رحت دهشور عشان ميبقاش في مكان تاني في الذاكرة مليان بروحك.

الدنيا بتمشي، الحاجات بتكمل، لكن في راسي، إنت دايمًا قاعد على الكنبة – ملك صفية زغلول والمنيرة – صورتك ع الكنبة هتفضل، والخشب مالي البيت دفا – دفا فالصو، مش الخشب اللي بيخلي البيت عندك أجمل بيت، كان صوت نفسك، صوت ردك على التليفون، صوت تنهيدتك وإنت بتحاول تقوم. كل ما أفكر في التفاصيل بقول لنفسي كشكل من أشكال المواساة إنه كان شيء أناني أوي إننا عايزينك تفضل عايش بس ده تخلف. يعني لو هنختار ما بين إنك تبقى هنا ولا تمشي أكيد هنكون أنانيين. تخلف عشان بالرغم من كل حاجة، بالرغم من صعوبة الحاجات ومن إن جسمك مكانش مساعدك ولا مكفي حزنك، أنا كنت شايلة هم اليوم ده بس لسنين قدام، سنين كمان وياك، سنين كمان بضحتك، بس اللي حصل حصل، وخططتنا مش مهمة ولا حتى أنانيتنا مهمة في وش الموت.

في حاجات كتيرة أوي متكلمناش فيها، مش حاجات ضرورية بس حاجات. عمري ما قريت سورة يوسف لحد ما بعد ما مشيت. طلعها على النت بالتفسير وقعدت أقراها آية آية وأحاول أفهم. مكنتش عارفة إن الجزء ده من الآية – " فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهنّ، وقلن حاشَ لله ما هذا بشراً إنْ هذا إلا مَلكٌ كريم" – من سورة يوسف. بسمعها من وأنا طفلة وبرددها في كل حضرة منغير ما أفهم، وحتى لما قريت التفسير مفهمتش، مفهمتش غير إنهم قالوا لك يوسف عشان زي سيدنا يوسف إنت كنت جميل، كنت الأجمل على الإطلاق. مكملتش قراية بعدها، قفلت اللاب توب وقعدت أعيط وجوه جفوني في فيلم شغال، فيلم احنا بنتفرج عليه، قاعدين بعد الغدا بناكل مانجة، وإنت هتاكل مانجاية عويس، وفي مانجتين في طبقين وسكاكين. شجر المانجة مبيطرحش، وقلبي بيتقبض لما بفكر إنهم كانوا مانجتين مش تلاتة، وبشوفني قاعدة مع ستات كتيرة على الكنبة ماسكين مانجة وماسكين سكاكين وبدل ما إنت تيجي من المطبخ، بروحك، بوجع ظهرك، بحزنك، بحبك، بضحك، بصوتك، بتيجي خفيف، زي الطيف وأنا بعرف إنك خلاص مش هنا، ومش جاي تاني، وبنقطع ايدنا بالسكاكين من الحزن، بعيط على المانجة اللي ملهاش طعم ولا معنى وإنت بتعدي وتخرج من شباك الصالة منغير ما تحرك الستاير.

دلوقتي بفكر إن محدش فينا بص لو الشبابيك مقفولة قبل ما ننزل، وأنا اتسحبت بهدوء ووقفت قصاد صورتك في إزاز النيش وأخدتها، نفس الصورة اللي قلت لايبتي قبل كده هاخدها وهي قالت لأ وإنت قلت أه، بضحك لما بفتكر ردود أفعالك في مواقف معينة، بضحك من قلبي. أخدت الصورة قبل ما ننزل نروح العزا، حطيتها في شنطتي ومشيت.


بدأت أكتب لك النص ده بعد ما مشيت بكام يوم، ودلوقتي، حاسة إني لازم أخلصه، أقفله بشكل ما عشان ابتهال جاية وده معناه إننا هنقعد في البيت منغيرك، وهنعيط ونضحك ونتمنى تكون معانا، وسطنا، نشوف هناكل ايه، ننزل لهناء، نطلع لك تاني، نجيب حاجة حلوة، نسمع صوتك وإنت بترد على التليفون، نسمع صوتك بتنده، نسمع حسك في الصالة.

شعور البرد جوه البيوت بيفكرني بيك، بيحسسني إنك مش هنا، بس بفضل ماسكة في حاجة ما تخليني أوزن الواقع، عايشة أنا في دماغي، عايشة في افكاري عن ايه اللي ممكن يحصل وحتى الموت مش بيقف في وش خيالي، أو مش دايمًا، مش عارفة. مش عارفة أقولك ايه ولا أكتب ايه، مش عارفة لو إنت سامعني لو انت موجود في مكان ما، في الشمس اللي زي ابتسامتك، في نجوم دهشور اللي مفرقعة في السما زي ما ضحكتك كانت بتتفجر وسط الصالة، ملمس بطن كفوفك – بحس بحاجة بتطبق على نفسي لما أفتكر ملمس بطن كفوفك عشان مش هحسه تاني.

"خليني جنبك، خليني" مطلع الأغنية بيوجع لي قلبي، بقت متصلة بعدم وجودك، زي ما سيد مكاوي ووردة كانوا موصولين في راسي بحبك وبفقد طنط وبكسرة قلبك الكبيرة اللي فعليًا معرفش عنها حاجة بشكل واضع لأني محضرتش غير صدى الحزن في أخر تلات سنين. بستغرب أوي إزاي الحزن ممكن ياكل حتت مننا كبني أدمين، وبخاف على ابتهال ونهيل أوي أوي، وبعدين بحس إنهم هيشلوا الحزن ده جواهم لكنه هيكون جنب مشاعر كتير أوي، أوي، هو حزن مصاحب لشريط حياة معاك، شريط كله جمالك وبيحكي عن دلالك.

الوقت بيعدي يا حبيبي يا حتة مني، "يا حبيبي لبكرا ولأخر وقتي،" عدت شهور وهتعدي شهور غيرها، وأنا مش خايفة من الندم على وقت راح مني كان مفروض أكون فيه جنبك أكتر على قد ما أنا خايفة من مرور الوقت منغيرك وزحفه زي التعبان بخسة وقهر. بعدين بصراحة بحمد ربنا إني بعرف أهرب لدماغي، بهرب لواقع مش هو الواقع، بهرب لخيال محال وممكن فيه أكلمك وألعب في شعرك ف حتى لو المحل قافل واليافطة الخشب ورا الإزاز خلاص مش هتقول "مفتوح" تاني، حتى لو الصالة ضلمة منغيرك والبيت ملوش طعم ولا ريحة ولا لون، حتى لو شجر المانجة مش هيطرح على ايدك تاني، بنام وأصحى وأنا عارفة إن المنيرة منورة بنورك مهما حصل ومهما فات وقت، المنيرة منورة بنورك يا عمو يا حبيبي، منورة بنورك دايمًا حتى وإنت مش هنا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

زيت على كانافا

The Madness of Mrs. Woolf