عازف التشيلو و الغرفة الأخرى


ركضت في الطرقات المظلمة و في الثواني القليلة التي قضت فيها المسافة بين الصالة الأمامية و الغرفة بحثت في ذاكرتها عن أي شيء متصل بهذا الجزء من الشقة و لم تجد. وجدت نفسها تفتح باب لم تفتحه من قبل أبدا و شعرت بسعيد يأتي من خلفها مهرولا.

وجدته ملقى وسط الغرفة بجانب التشيلو.

تسمرت مكانها و أتاها صوت سعيد كأنه من سماعة هاتف لا تعمل يخبرها أن سيارة الإسعاف قد وصلت.

*************

أخرجت متعلقاتها من الحقبية التي أصرت على ألا تأخذ غيرها. ظلت تقول لنفسها و تقول له بغير وضوح انها لن تبقى لمدة طويلة و اصتحابها لحقيبة واحدة فقط ما هو إلا تأكيد لكلامها.

جلست على الفراش و هي تتذكر ردود أفعال اصدقائها المقربون عندما قالت لهم أنها ستعود لمدة قصيرة حتى يتحسن. سألت نفسها لماذا هي هنا؟ لم يتغير الحال كثيرا فهي في نفس الحجرة التي قضت بها أخر شهور لها في هذه الشقة. أحبت هذه الغرفة بالرغم من الآلم التي حملتها ذكرياتها. كانت هي التي أفترشتها و لم يتغير منها شيء منذ ذلك الحين فلماذا يملؤها شعور مختلف. ربما لأنها أختلفت هي نفسها و تغيرت و تبدلت علاقتهم فهي لم تعد زوجته و لم يعد جزء من حياتها و هي لم تعد جزء من حياته أو هكذا ظنت حتى اتصل بها سعيد بعد ما حدث ما حدث. أتصل بها هي دون الناس.

هكذا كانت تعليماته.

**************

"عادل...عادل اصحى عشان تأخذ الدوا"

توسط جسده الهزيل الفراش الذي تقاسماه معا منذ زمن و بدا لها و هو يكاد لا يأخذ أي مساحة اطلاقا من الفراش رجل مسن يتمسك بآخر أيامه. فتح عيناه ببطء و ظلت هي تبحث عنه في وجهه الشاحب – لم تجد إلا طيف.

لم يتكلم معها و حتى بعد ثالث يوم من عودته من المستشفى لم يقول شيئا مع أنها جلست معه في غرفة نومه كلما حان موعد دوائه تقرأ قليلا أو فقط تجلس بجانب النافذة. لم تتعجب فهكذا كانت علاقتهم قبل النهاية – بدون كلمة واحدة أو ادنى اعتراف بوجود الشخص الأخر في الحياة أو حتى في نفس المكان.

"شكلك أحسن النهاردة"

لم يجاوبها و جلس في الفراش و يأخذ منها الحبوب البيضاء و الصفراء و كوب ماء فاتر و يبتلعهم بتأني كأنه يتذوق شيء جديد و يسطتعمه. وضع الكوب على الكومود و تبعها بعينيه و هي تفتح الستائر و تدير المذياع على قناة الموسيقى الكلاسكية و تجذب كرسيها أقرب إلى النافذة.
خرج من تحت غطائه في هدوء و وضع قدميه الحافيتين على الأرض مستندا على الكوموود. لم تشعر به و هو يتحرك و خطا بضع خطوات ساكنة تماما ليصل عند المذياع و أغلقه.

"كنت عارف أنك هاتيجي لو طلبت منك"

لم يكن قد قال لها كلمة منذ سبع سنوات.

نظرت إليه و بعد مدة من الصمت خرجت من الغرفة.

***************

عاد إلى الغرفة الأخرى و إلى عادته التي ظنت أنها أنتهت بعد مرور كل تلك السنين.

أخطأت. لم يختلف الحال كثيرا, دخل إلى الغرفة و أغلق بابها و تركها وحدها تستمع إلى عزف متواصل احيانا و متقطع احيانا أخرى و صوته و هو يتكلم مع لحن أو مقطوعة و يترك لحظات بين الجمل كمن ينتظر أجابة.

لم يستأذنها أن يخرج من فراشه. أخذ دوائه ككل يوم و تركها نائمة عند النافذة لم تشعر بتحركاته أو عدم وجدوه إلا عندما مرت الموسيقى من الجدران و الفراغ الذي تواسطهم. أنتظرت أمام النافذة قليلا ثم تبعت خطاه في الدهليز المظلم المؤدي إلى الغرفة التي طالما كرهتها. توقفت عند الباب و اراحت جسدها عليه ببطء. كفيها أولا ثم خدها الأيسر و آذنها التي ألصقتها بالخشب السميك ثم جسدها كله.

جائها آنين خفيف من عتمة الغرفة يعلو و يهبط و نسيج واحد في جناس متاكمل مع الدموع التي بللت وجهها في صمت.

تركها اليوم خارج الغرفة – خارج حدوده – كما تركها سابقا لكنها أبدا لم تتبعه أو تترك نفسها إلى سماع ما يأتي من غرفته. اليوم دون أي وقت أخر شعرت أنه يريدها أن تستمع إليه. شعرت أنه يتكلم معها. اسعدتها معرفة أنها اليوم يمكنها دخول الغرفة و كرهت السبب. خافت من موافقته أخيرا على إدخالها حيثما ارادها دوما بعيدة. شعرت أنه يعرف ما لا تعرفه – ذلك الشعور الذي طالما لازمها و هما معا ها هو يعود من جديد. موافقته على دخولها الغرفة ما هي إلا طلب مساعدتها – اعتراف بضعفه ربما – مساعدتها في حمل ما يعرف و لا يقوله لها. هي الأن تستطيع فتح الباب و تدخل و لن يتوقف عن العزف أو يطلب منها الرحيل في صمت. الأن فقط بعد ما أنتهت شراكتهم أصبحت شريكة في هذا الذي لا تعرفه.

لم تمانع.

**************

لم تستطع الحزم بعدد الساعات التي قضتها عند الباب عندما افاقت من النوم. لم تساعدها عتمة الدهليز على التعرف على عمر اليوم فكانت العتمة لا تتغير مع تغير ساعات اليوم. لاحظت أنها متكورة عند عتبة الباب مستندة بجسدها عليه. تيقنت من الصمت حولها أنه توقف عن العزف و ملأتها رهبة. اقامت من جلستها و استمعت إلى الصمت الذي تلحفها منتظرة أي إشارة من الداخل حتى لا تفتح الباب.

لسعتها برودة النحاس و هي تضغط على المقبض و تدفع بالباب. شهقت.

كان جالسا على الكرسي الوحيد في الغرفة كلها و التشيلو بين فخذيه و ذراعيه محكمتين حول الجسد الخشبي و رأسه مستند على العنق اللامع – نائما و يكاد لا يتنفس.

خطت ببطء داخل الغرفة تتحرك نحوه بلا صوت كأنها فور ما عبرت الخط الذي فصلهم سابقا ذابت في صمت الغرفة – صمت ثقيل يكتم أي صوت داخله إلا العزف و كان هو جالسا يكاد لا يتواجد يختفي رويدا في الصمت. اضائت الظلمة جسده أكثر حتى شعرت أنها لا ترى غيره.

لمسته فوجدته باردا و لم يقف إلا عندما أخذت التشيلو من قبضته المحكمة و وضعت الجسد الهائل في صندوقه بعدما اخرجت ملابس عادل منه. كان قد تخلص من كل شيء إلا من سرواله الداخلي. تخيلته في ذهنها يتوقف عن العزف و يخلع شيئا ثم يعود للعزف مرة أخرى. وجدت القلم منفصلا من غطائه بجانب الكرسي.

أحكمت يداها حول صدره مبتعدة على قدر المستطاع عن الكلمات و النوتات التي غطت ذراعيه و فخذيه و جزء من بطنه و أخرجته من الكرسي. لفت ذراع حول صدره و وضع هو ذراعيه حولها و تحرك معها بهدوء.

سقط غطاء القلم على الأرض في صمت الغرفة.

**************

رفض ارتداء ملابسه و جلس على حافة الفراش و طلب منها كتابة كل ما كبته على جسده في كشكول أسود على الكومود. كتبت كل نوتة كما هي في الصفحات البيضاء الجديدة تحتهم الجمل المتقطعة التي لم تفهم منها شيئا. رفعت ساقيه من على الأرض و غطت جسده بملائة قطنية كما يحب و فتحت النافذة قليلا.

"نامي جنبي"

كانت قد اطفأت النور و لم يضيء الغرفة إلا الأنوار القليلة الخافتة التي أتت من خارج النافذة لكنها رآته يسحف بهدوء إلى جانبه من السرير و يمسد بيديه على النصف الخالي – نصفها. أغلقت الباب و عادت إلى إليه.

لا تزال رائحته كما كانت دوما مع أنها لم تنم فيه من سنوات. لم يستبدل عادل الوسادات الكثيرة التي تركتها. فرحت لأن الفراش ظل كما تركته لكنها تذكرت أن عادل لم يهتم بالوسادات أبدا و الأرجح أنه لم يهتم بتغير شيء. اراحت جسدها و عاد إليها الشعور القديم عند تقابل ظهرها مع المرتبة و الملائات الباردة. اعطاها عادل طرف من الملائة و عندما تركتها عند قدميها ازاحها من على جسده هو الأخر و اقترب منها أكثر. خبئ رأسه بين ذراعها و ثديها الأيمن و ضم ساقيه إلى صدره ليأخذ جسده كله حجم وسادة كبيرة تحتضنها و هي نائمة.

نام و ظلت هي مستيقظة ترى نوتات موسيقى تتراقص على السقف و الجدران حولها و تشعر بأنفاسه الدافئة على ملابسها.

"متغيرناش كيتر يا عادل"
همست بعيد عن أذنه و هي تعلم أنه لا يسمعها. حاولت أن تتذكر أي جملة من الجمل التي نقلتها في الكشكول الأسود بلا فائدة. مرة كانت تلك الجمل و النوتات على جسدها هي بالحبر الأسود. وسط عناق طويل و متلاهف توقف فجأة دون أي إنذارات و قام عاريا من السرير يبحث عن قلمه و كتب سطرين من النوتات على بطنها و انتظر حتى جف الحبر ليعود إليها مرة أخرى.

لم تكن مستعدة دوما لعودته. قليل من المرات التي تركها عارية وسط الفراش و ركض في الممر الذي لم تكن تكرهه بعد و عدّل شيء ما في مقطوعة ثم عزفها ليسمعها مرة و احيانا مرتين و يعود ليجدها باردة و تود لو تسأله لماذا الأن؟ معظم الوقت اثارها قدومه إليها باشتياق لها غاضبا من مقطوعة لا تتزن و برغبة في تحطيم الجدار الذي وقف عائقا بينه و بين موسيقاه. في تلك اللحظات لم تحتاجه حتى النهاية و لم تنتظره. شعرت باكتمال فور ما رات في عيناه احتياج لها.

توقف كل ذلك دون أن تشعر. زاد غضبه و توتره و شعوره بعدم التحكم في الموسيقى و هي توقفت عن شعور أي من تلك المشاعر. نما بينهم جدار كما نما بينه و بين التشيلو و فقد سيطرته على نفسه. لم تكن رغبة أو احتياج بل نظرة سارحة في أوقات و اوقات اخرى كلها يأس. نظر إليها هكذا طوال الوقت كأنه يطلب منها خلاص و هي لم يكن في إستطاعتها شيء. ظلت تأخذه إليها ليلة بعد ليلة تحاول و هو ينظر إلى جسدها و عيناها كأنهما يحملان إجابات لا يراها. توقف عن العودة من الغرفة الأخرى إليها كما كان يفعل و هي لم تستطع متابعة الأهتمام.

احست بركبتيه تصتدمان بخصرها و قفصها الصدري فضمته إليها أكثر دون أن تتقلب. تذكرت المرة الأولى و كيف قضت ليلتها في وضع يشابه الذي تنام عليه الأن. وقتها كرهته كما لم تكره من قبل و فاجأها هذا الكم من الكره الذي لم يتواجد و ولد في لحظة. انتظرته في ظلمة الغرفة ليأتيها بالوهج الذي فقداه. جائها بنظرة مجوفة – نظرة لم تراها من قبل – أخافتها فأخذته إليها لتنشغل بشيء أخر و ينسى هو. آملت في ما تذوقاه معا و شعرت أنها إذا مدت يداها قليلا ستمسك بكل ما ذهب. أغرقت نفسها في الوهج و الدفء و الذكرى بين ذراعيه لكنه لم يأتي. تركها طفل صغير و جلس في الكرسي المقابل للفراش كأنه لا يراها و هي فقدت الدفء شيء بشيء ليأخذ الكره مكانه.

مررت يداها الباردتان على جبهته و سحبت الملائة لتغطيه بها.

قبل أن تتوقف محاولاته القليلة بعد ذلك كان ينظر إليها متسألا و هي لم تعرف عن ماذا. تحول كرهها إلي غيظ مكتوم و هي تصبر و تنتظر. استسلم و لم يعد ينظر إليها و أصبحت هي تعيش في الشقة كلها و هو يعيش بالغرفة.

قرابة الفجر أغلقت عيناها أخيرا و بعد أن تأكد أنها نامت بكى بلا صوت.

**************
على مدار الخمسة ايام التالية لم يخرج عادل من الفراش إلا ليأكل معها في المطبخ أو ليجلسا قليلا في الشرفة. قضى بقية يومه ينتظرها حتى تعود إذا خرجت أو يستمع معها إلي المذياع. احيانا طلب منها أن تقرأة له من قصائدها المفضلة من مجلدها الكبير الذي كتبت فيه كل ما أحبت من أي ديوان مر عليها. كانت تجلس حداه في الفراش و تفتح المجلد عند أي صفحة و تقرأ له.

اليوم مل من المذياع و أم كلثوم اسرع من العادة.

"أفتح أنت المرة دي"

أنتظر قليلا ثم أغمض عيناه و مرر بسبابته اليمنى على الأوراق المتأكلة ثم دفسها عشوائيا بين ورقتين و فتح عيناه على جزء من قصيدة لدينيس ليفرتوف.

"كنا توأم سيامي
لا تعرف دمائنا إذا تستطيع
إكمال دورتها بيننا
بعد الأنفصال.
شئ ما بداخل كل منا
ينتظر ليعرف إذا استطعنا الحياة
مبطورين"

اغلق المجلد و طلب منها أن تتركه وحده لينام.


***************

صمم على إرتداء ملابسه وحده. بعد مرور عشرون دقيقة من المسافة بين المنزل و المستشفى أصر أن يعود ليأخذ معه القوس. تجاهلها تماما و هما ينتظران الطبيب و طوال رحلة العودة و لامها على عودتهم بعد أنقضاء معظم النهار.

قال لها أنه سينام فتركته في الفراش و ذهبت إلى حمامها لتأخذ دوش سريع. خلعت ملابسها و تركت الباب مفتوحا لتسمعه إذا نده عليها. أخذت نفس عميق و أغمضت عيناها و وقفت تحت الرذاذ الساخن تحاول إخماد كل الأصوات التي تشاجرت داخل رأسها. وقفت على ذلك الحال طويلا تضع تركيزها كله إيقاع قطرات الماء المتسارعة و هي ترطدم بجلدها. تداخل إيقاع أخر ظنت في البدء أنها تتخيله لكنها فور ما عرفت أنه ذهب إلي التشيلو. لم يدم طويلا فعادت مرة أخرى إلى الماء و صوته.

سمعت الصوت أولا ففتحت عيناها و أنتظرت – كأن شيئا سقط – دعت أن يكون التشيلو. ثم بدأ الصراخ: غاضبا ثم متوسلا. سحبت منشفة من على الغسالة و ركضت و هي تحاول أن تعرف من أين يأتي الصوت. علا عندما أقتربت من حمامه فدخلت و هي تلف المنشفة حولها. لم يراها حتى وقفت فوقه و سقطت عليه المنشفة المبللة و حتى حينها لم يتوقف عن الصراخ. ظل يعلو صوته و هو ينظر إلى السقف و يصرخ. رفعته و اجلسته على حافة البانيو و أخذت تمسح الدم الذي تساقطت قطراته من أنفه و شفتيه. دفعت برأسه إلى الخلف ليتوقف النزيف فسكت. نظرت حولها و وجدت شبشبه و قميصه على الأرض بجانبهما قطرات دم و قليل من القيء و صنبور البانيو يدفق ماء.

مسحت على خديه و هو يحكي لها. أراد أن يستحم. فتح الصنبور و خلع قميصه ثم شعر برغبة في التقيئ فأسرع نحو المرحاض. تعثر في القميص و الشبشب و سقط على وجهه.

صرخ في وجهها "عايز استحماه. استحماه. هوه حكم إعدام؟ عايز استحماه."

فتحت الدش و طلبت منه أن يخلع بقية ملابسه و هي تمسح الأرض. انتظرها حتى أنتهت و استند عليها و هو يقف تحت الماء. غسلت جسده بتأني و اخذ يبتسم و يتكلم قليلا. أعتذر لها عن قطع حمامها و طلب منها أن تسمح له بغسل شعرها. ضحكت و وضعت قليل من الشامبو في كفه اليمنى و استند بكفه الأخرى على كتفها و أخذ يفرك خصلاتها المبللة بيد واحدة. حرك اصابعه بعنف عند جذور الشعر و مرر شعرها بين اصابعه لتشطفهم الماء من الرغوة. مسح بيده على رقبتها و كتفها ثم أخذ يداعب نهديها الدافئين. أغلقت الصنبور.

جلس على الفراش و هي تمسح الماء من على جسده بمنشفة نظيفة و جلست بجانبه معها منشفة أصغر لففت فيها شعرها. دفعته بهدوء نحو وسادته و هي تنهض لكنه لم يترك يدها. جذبها حتى اراحت رأسها على الوسادة الأخرى. فك المنشفة حول شعرها و هو يقبلها و يلمس بيديه ثنايا جسدها الندّي. لم توقفه. تعجبت للنظرة في عيناه – نظرة فضول – و هو يصل إليها بأصابعه كأنها للمرة الأولى. أخذته في يدها و لم تتفاجأ لخموله. نظر إليها مبتسما.

"مكانش في ستات تانين"

بكت في صدره و لففاه جسداهما حول بعض بينهما ذكريات مكالمات من نساء أخريات بعد حفلاته و دعوات من أصدقاء لم تعرفهم و لم يصتحبها معه إليهم و صمته عندما سألته إذا كان يحب امرأة أخرى. وقتها تركت غرفتهم و انتقلت إلى الغرفة التي عادت إليها الأن. حاولت مرة أخيرة, ذهبت إليه لتجده جالسا كعادته في الكرسي المواجه للفراش تحاول إيقاظه إليها. جلس صامتا شاردا في شيء بعيد عنها و لم يفرق حتى شفتيه ليقابل شفتاها.

الصباح التالي كانت قد حزمت حقائبها و ذهبت.

جف شعرها و هي تبكي و تستمع إليه يتكلم معها كسماء أمطرت أخيرا بعد طول جفاف. لم تكن هناك نساء اخريات – هي فقط. هي دوما هي و لا أحد غيرها لكنه كان لا بد و أن يبطر كل شيء. هي فقط عرفت ضعفه و هي فقط كانت دائما قريبة بما فيه الكفاية لتراه و هو مجردا من كل شيء إلا موسيقاه و التشيلو. عندما توقف جسده عن إعلان رغبته فيها توقف هو عن السؤال – هو يعرف طوال هذا الوقت أن كل طاقته مركزها تلك الغرفة التي لم يعرفها غيره و كان عليه الأختيار.

"يا أنت يا الخشب إللي جوه ده"

كان عليه أن يختار بينها هي – جميلة و متوهجة و تضخ حياة و بين جسد من الماهوجني يحيا فقط بلمسته هو.

***************


مع بدايات الخريف عاد عادل إلي الغرفة و خلال الاسبوعين الذين تحسن فيهم قليلا كانت هي قد تركت غرفتها و عادت إلى غرفتهم. يقضيا جزء من الصباح معا ثم تأخذه إلى الغرفة و تساعده في حمل التشيلو و وضعه بين ساقيه. جلست دوما في الحجرات الأقرب لغرفته لتسمعه. تحسن عزفه مع تحسن صحته فاستطاع أن ينهي مقطوعة بأكملها دون أي توقف للراحة. لم تستطع تخمين كل مقطوعة فكان يعزف احيانا ما كتبه هو و كانت تميز هولاء عن الأخرين فور ما يبدأن.

في عتمة الليل سهر يحكي لها و هما يختبأن تحت ملائتين عن كل مقطوعة و كيف جائت له و متى و ترك لها تسميتهم.

***************

استند عليها حتى وصلا إلى الكرسي و أخرجا التشيلو من القطيفة الحمراء و وضعته بين فخذيه. قبّل اصابعها و هي تمرره القوس و استدارت لتخرج.

"خليكي"

ترددت قليلا ثم جلست على الأرض الخشبية قبالته.

أخذ القوس في يديه و مال بجذعه على عنق التشيلو و أخذ يعزف اجزاء من مقطوعات كلاسكية دون التوقف بينهم. كل ما تأقلمت ذهنيا و جسديا مع إيقاع مقطوعة ما أخرجها من تلك الحالة و أخذها إلى إيقاع مختلف تماما. علت النوتات فجأة و أسرعت ثم بطئت و تقطعت و بقى هو منكبا على التشيلو يغمض عيونه ثم يفتحها متعجبا من الصوت الذي يخرج من حركة اصابعه و القوس على الأوتار.

توقف و اراح يداه و ركز عيناه عليها و هو يعتدل في جلسته ليكون ظهره مستقيما و قدميه ثابتتين على الأرض و التشيلو محكم بين ركبتيه ثم بدأ. ملأ الصوت الرخيم الغرفة يتراقص بين الجدران العارية و الأرض الخشبية. لم تعرف مدة المقطوعة لكنه عزف و هي استمعت. بدأت يداه و ذراعاه يؤلماه لكنه ظل يعزف دون أن يريح عضلاته حتى في الثواني القليلة بين نهاية جزء و بداية أخر. تسلل أحساس التخدير من ثباته في جلسته من قدميه إلى ساقيه و جذعه لكنه لم يكف عن العزف قبالة عيناها و هما تسبحان من التشيلو إلى الأرض و السقف و إليه هو. قامت من من على الأرض و تحركت حول الغرفة كأنها تدخلها لأول مرة و يداه تتحرك على عنق التشيلو. أحست أنها لم تعرفه قبل هذا اليوم. أن كل ما مروا به معنا و دون الأخر ما كان إلا تمرين أو بروفة لهذا. حفظها لجسده و كل ندبة أو علامة عليه لم يعني شيئا. معرفتها بطعامه المفضل و موسيقاه و كتبه المفضلة لم لتكن مهمة. قدرته على إخماد أي ألم في ظهرها بالتدليك أو شعوره بمللها أو غضبها فقط بالنظر إليها – كل هذه تفاصيل لا تعني شيئا. هو لا يعنيه إلا ما يخرج منه هو و هذا التشيلو. هو لا يكون إلا داخل التجويف المعتم داخل الجسد الخشبي و هي لم تفهم إلا الأن. شعرت براحة أخافتها فور ما وضحت أفكارها و مشاعرها. يحبها – لن تضطر أن تتسأل بعد الأن – ملأ ذهنها شعور ما بعد حل مسألة لا يفهمها العقل. هذه البساطة التي اختبأت خلف تداخل الأفكار. يحبها و هو ليس هو إلا داخل التشيلو. بعيد عن التشيلو أحبها على قدر ما استطاع و هو يريدها أن تفهم دون أن يضطر إلى الشرح. ماذا يقول؟

تزاحمت الغرفة بصوت التشيلو برنته التي تميزها بين كل الآلات. ظل يعزف و ظلت هي تتحرك في خطوات صغيرة خلف كرسيه تقترب من الستائر القطيفة التي وضعها من سنوات لتكون الغرفة كمسرح صغير. اقتربت من الستائر و جذبتها بحركات سريعة متماشية مع إيقاع ما يعزفه. سحبت الستائر الثقيلة و فتحت الزجاج الذي توقف عن تنظيفه منذ أن مرض. سمع صوت النافذة و هي تنفتح على الشارع المظلم الهادئ و ظل يعزف. وقفت بحذا النافذة و الهواء يدخل الغرفة أخيرا ليختلط مع صوت التشيلو الجهور و يحمله بين ذراته و يخرج به إلى الليل.

يستحق أن يعزف إلى جمهور غيرها كما كان يفعل في تلك القاعات وهي تجلس تسمعه وسط جموع تنظر إليه كلما فتح عيونه و يشع نور. يستحق أن يشعر بالحقيقة الوحيدة التي عرفها في حياته. يستحق أن يعرف تلك الراحة و ذلك الثقل الذي يأتي معها, مع الوصول أخيرا إلى معنى – يستحق كما أستحقت هي.

******************

اسرعت من خطواتها لتقي نفسها من البرد و المطر. لم تتأخر لكنها ارادت أن تصل في أسرع وقت ممكن. افتقدت صوته و الجلوس بجانبه و اشتاقت إلى عزفه. احكمت اصابعها حول الأكياس و زفرت و هي تعبر أخر شارع لتنعطف يمينا و تصل إلى بنايتهم. اسرعت و هي تخطو على الرصيف ليس لأنها قلقة عليه – سعيد معه تركته يشاهد التلفاز – و هي لم تغب كثيرا أنما ليأكلا معا. قد وعدها أن ينتظرها.

قابلتها سيارة إسعاف تدخل الشارع من الناحية الأخرى. القت بالأكياس على الأرض و هرعت على السلالم إلى الدور الثالث. وجدت باب الشقة مفتوحا و جارهم المهندس المتقاعد يقف عند المدخل.

ركضت في طرقات الشقة التي دخلها النور من الباب المفتوح و في تلك المسافة بين الصالة و الغرفة رن صوت سعيد و هو يصرخ أنها نسيت هاتفها و تداخلت مع صوته ذكريات لضحكات و موسيقى.

كان باب الغرفة مفتوحا و وقف سعيد خارجها يزعق بكلمات و جمل لم يصلها منها شيء.

وجدته على الأرض عيناه مغلقة و صدره يكاد لا يتحرك و التشيلو بجانبه مكسور.

رمت نفسها عليه تحتضنه بكل طاقتها يبلل شعرها المبلول و دموعها وجهه و رأسه. مدت ساقها تجذب القوس إليها ثم سحبته بيدها و أمسكت التشيلو من عنقه و جرته المسافة الصغيرة بينهم و ضمت الجسد الخشب المكسور إلى جسده الذي فقد دفئه سريعا و تمسكت بالأثنين. تمسكت بكلتا يداها الباردتين و ضمتهم إليها متشبثة بهما و هي تتأرجح لتخلق بعض الدفء.

أتى من خلفها صوت سعيد و اقدام تركض و اصوات تعطيها أوامر بالأبتعاد و هي لا تسمع منها شيئا.
كانت قد غرقت في الغرفة و الموسيقى و تجويف التشيلو.

تعليقات

‏قال Unknown
i allowed myself to read such a very beautiful text for you, and i have to tell you that i just loved it more than words can tell , but i guess it is a little bit long, keep it up
‏قال Zainab
Sodfa. Im so sorry I don't know your first name but I can't thank you enough for your sweet words. It is long yes and I want to edit it. Thank you again
Really glad you liked it

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صورة يوسف

A City of One's Own

Olga's Pool