مدينة تخص المرء وحده
مدينة تخص المرء وحده
ترجمة شادي الحسيني
كيرياليسون
... كيرياليسون ... كيرياليسون
صوت الفرملة و صرير القطر و هو بيبطأ
غطِت على نداء الراجل. ما ركِبش. المحطة في قلب المدينة ما بتهداش و فيها تبادل ما
بيخلصش للركاب اللي بيطلعوا و بينزلوا في النور النيون البارد.
رجع ينادي تاني: كيرياليسون
ما تحركتِش من مكاني. فاتني القطر و
أنا باتفرج على الراجل اللي كأنه موجود هنا بس عشاني. ما حدش تاني حيفهم. بالنسبة
لهم ده مجرد واحد من اللي جننتهم المدينة.
الجيزة، 1999
ضوء خافت متسلل ما
بين فروع الشجر و صابب من الشباك منورلي و أنا باوضب صور جدتي، صور لوشوش بقت
مألوفة. كُلها وشوش تعبانة و مُبتسمة، وشوش
شايلة حاجة أتقل من اللي ملامحها تقدر تشيله. نقدر نسميهم "وشوش مصرية
أصيلة". حتى الأطفال، كأن السنين إللي قدامهم و تجاعيدهم متحددة على وشوشهم.
صور جدتي كانت مفرجاني على القاهرة اللي عمري ما كنت حاعرفها
لوحدي: القاهرة اللي لسا لحد دلوقتي ما وصلتش لأطرافها. إتصاحبت على وشوش دهشور و
المنصورية و كرداسة و جزيرة الدهب و المنيل و الدقي و الجيزة و مصر القديمة.
وشوش أصدقاء جدتي و وشوش قرايبي و وشي، و الأماكن اللي كنا
بنقعد فيها ناكل "إكلير" و هي تشرب قهوتها، كلها ما وصلتش لكومة الصور
اللي محطوطة على الترابيزة و مستنية الأحفاد يجوا يوضبوها و يظبوتها في مكانها:
شغلانة للعيال في الصيف.
جامعة القاهرة، 2010
"آداب
أخرى بالإنجليزية": مناقشة حوالين "بيرة في نادي البيلياردو" لوجيه
غالي. بطل رواية غالي، "رام"، و هو قبطي من الطبقة الراقية مفلس و عايش
في مصر ما بعد 52، شايف إنه المصري الحقيقي مش بس الفلاح ولا اللي بيركب الترام.
المصري الحقيقي هو اللي دمه خفيف.
"رام" جواه طول الرواية إحتياج شديد لإقتناء القاهرة،
عايز يبقى له نصيب في ميراثها، زيه زي بياع الخيار. خفة الدم هي الدليل الوحيد
اللي عنده على إنتمائه للمدينة.
ما بلاقيش الوش اللي متخيلاه ل"رام" لا في صور جدتي
و لا في صور تانية معروضة جنبها للبيع.
محطة التحرير، 2011
الراجل زعق و قال: كيرياليسون.
إفتكرت "رام" و أن الحاجة الوحيدة اللي قالها بالقبطي في الرواية هي كيرياليسون.
لو كان الراجل ده موجود و بيدعي
لما كانوا بيقبضوا على الناس و بيخرجوهم من القطر عشان شكلهم مش متعلمين و عشان
لبسهم مش مُتفق مع المعاير الإجتماعية للشرطة و الجيش ، يمكن كان دُعاه أنقذهم.
"يا رب إرحم. كيرياليسون. يا رب
إرحم."
مع إنني عارفة إنه لو كان موجود ماحدش كان فهم حاجة. اللي
قبطي أو اللي قرا وجيه غالي بس هو اللي كان هيفهم. كانت رحمة ربنا حتعدي على اللي
تحت الأرض و كانت حتتجاهل كُل اللي وشوشهم أهلكتها شوارع القاهرة.
"لا إله إلا الله ... لا إله
إلا الإله ... لا إله، لا إله."*
ماتقدرش تمتلك القاهرة. دي مدينة تستسلمها بدل ما تحاول
تمتلكها. في أخر الليل أو الصبح بدري: هي مش بتاعتك.
حتى لو إمتلكتها للحظة ماحدش حيكون موجود يشوفها و هي بتستسلم
لك.
القاهرة بترفض يكون لها ورثة، بس لما بتحتاج لوش، لما بتيجي
تتصور، أول ناس بتتصور هم الناس اللي قسوتها كحتت جلدهم.
الراجل اللي قاعد على القهوة، بياع الجرايد، مساح الجزم،
الولاد و البنات اللي لافين يبيعوا ورد و مناديل، البنت اللي عينيها هم أول
ذكرياتي للخضار، شايلة كرنبة فوق دماغها: وشوش القاهرة. القاهرة بتتشاف، على مضض،
من خلالهم. و مع ذلك هي مش بتاعتهم.
أنا و "رام" ما عندناش الملامح المناسبة.
القاهرة، 2012
الشوارع – للحظة – بقت
بتاعته. وشه الصبياني مرسوم بالإستنسل على قماشة بيضا كبيرة ماسكينها عشرة تانين و
بترفرف في السما فوقه. القاهرة إستسلمت. سابت له نفسها النهارده و سابت له شوارعها
و ناسها.
هتاف الناس ما فيهوش أي شيء يدل على خفة دم و مع ذلك مافيش
مجال للشك: دول مصريين. دول سكان المدينة.
لا إله إلا الله
النعش عدى. و مع إنه مش جواه، القاهرة النهارده سابت له
شوارعها.
بعد 16 سنة من اللعب في شوارعها, القاهرة اليوم بقت بتاعت
"جيكا".
لا إله إلا الله. الشهيد حبيب الله.
و للحظة – لحظة الحداد العابرة – "جيكا" النهاردة حبيب
القاهرة.
26 نوفمبر 2012
* غالي, وجيه. "بيرة في نادي البلياردو". نيو
أمستردام بوكس, الولايات المتحدة الأمريكية, 1999.
كُتب هذا النص لمشروع "كايروبوليس" ل يان بيكا و هو
مشروع نصوص و صور عن القاهرة نشر في بلجيكا في 2013.
تعليقات