زيت على كانافا
محمد
بعد مرور شهور علي فراقهم، لا تزال عيناها تسيطر على أفكاره. كل شيء في حياته يستحضرها. يشعر كأن روحها تسكنه. يكاد ينطق باسمها كل مرة تفترق شفتاه ليتكلم مع أحد. عندما يجلس وحده في الليل يحاول أن يرسم، أن يخرج طاقته في شيء إيجابي. لكن كل ما يخرج من طرف قطعة الفحم هو اسمها. يكتب اسمها بخط الرقعة مرة وبالنسخ مرة أخرى، ثم يرسم وردًا أو مفتاح حياة صغير ليزخرف اسمها. يسأل نفسه لماذا تركها تذهب. يرقد في سرير غير مريح مفتقدًا جزءً من نفسه أخذته معها.
لا يرسم لوحة واحدة إلا بعدما يراها. يلمحها وهي تقود سيارتها في المنيل. ذلك اليوم يعود إلى الأتيليه ويمسح تراب شهور من على أنابيب الألوان والباليتة. يرسم خطوط بلا ملامح على "الكانافا" بقلم فحم ناعم. يملأ اللوحة بألوان ساخنة. تمر الساعات ومع مرورها تظهر تقاسيم وجه وجسد امرأة تميل حتى لا يظهر إلا كتفها الأيمن وجزء من ظهرها الذي تساقط عليه خصلات من شعرها البني المعقوف عند أسفل عنقها. رسم وجهها الخمري من شريط ذكريات هاجمه بشراسة فظهر أنف به عوجة صغيرة وشفاه ممتلئة. عندما ينتهي من وضع آخر لمسات على اللوحة يأخذ خطوتين إلى الخلف ليتأمل اللوحة من بعيد. تأسره عينان لونهما يقرب إلى العسل الجبلى أو العقيق. يتذكر كم كانت تحب العقيق البني ثم يبدأ في تنظيف الفرشاة.
أمل
أقنعته بسهولة أن يقوم بعرض لوحاته. وعندما اقترحت عليه بيعهم، اكتشفت الجهد الشاق الذي ستبذله ليوافق. لم تكن تحب التباهي لكنها تعلم أنها قادرة على تغيير رأيه. اتضح لها بعد ذلك أنها ليست بمهارة كافية لتقنعة ببيع لوحة معينة. رأت إنسانًا آخر عندما عند معها وأصر على عدم بيع تلك اللوحة خصيصًا. لكنها امرأة لا تمل حتى تنال ما تريد، فدأبت على اقناعه. في المجموعة كلها كانت تلك اللوحة هي الوحيدة دون اسم. تحب هي أن تعتقد أن هذه المرأة بشعرها البني المتوهج ونظرتها الغجرية ليست إلا صورتها في ذهنه. تؤمن أنها هي التي ألهمته ليرسم امرأة تخطف القلوب بنظرتها. حتى جلستها والطريقة التي رسم بها شعرها، كانت تشعر أن اللوحة تعبر عنها كثيرًا. لكنها وبرغم إيمانها بأنه يحبها، لم تستطع أبدًا البوح له بهذه الفكرة. تعرف أنه سيبتسم ويوافقها. لن يسخر منها أبدًا. لكنه كان سيفكر أيضًا كم هي رومانسية لأنهما تقابلا بعد مرور أكثر من سنة من انتهائه من رسم اللوحة.
رامي
كانت تلك اللوحة أول ما أهداها. تقابلا منذ بضعة اشهر وكانت علاقتهم لا تزال تحبو. كان يعرف كيف يوقف نفسه عن التفكير فيها عندما يتتطلب منه ذلك مع أنه يحب تذكرها. حينها كانت هي في نيويورك وهو منشغل بصديق له لم يزر مصر منذ سنوات. كان يؤمن بالصدف ويحب تفسيرها كإشارات. كانت صدفة أن يذهب هو وصديقه إلى الزمالك ذلك اليوم وصدفة أخرى أن يقابل صديقة قديمة أخذتهم إلى معرض فنان شاب. أما الإشارة التي رآها يومها فكانت اللوحة. عرف عند رؤيتها أنه يجب أن يشتريها لها وأنه قد وقع في حبها دون أن يدري. شعر أن اللوحة بورتريه للمرأة التي يحب. تعجب قليلًا لأنها دون اسم. وأثناء كلامه مع مديرة المعرض عن شرائها، كان قد وجد لها مكان على جدار ليمونيّ في غرفة معيشة صغيرة يملؤها أثاث حديث.
ديبرا
لم يتغير اليوم الثالث كثيرًا عن الأيام السابقة. استيقظت وارتدت ملابسها. استعدت لاستقبال الناس. في البداية اندهشت لكثرة الناس الذين أتوا لتفقد الأشياء المعروضة. لكن حتى اليوم الثاني لم تكن قد باعت غير معدات كهربائية و كرسي هزاز. فكرت في أن تضع إعلانات في أماكن أخرى لأنها تريد أن تنتهي من بيع الأثاث حتى تتمكن من عرض الشقة للبيع.
كان من الممكن أن تبيع الشقة مفروشة. لكنها صممت أن تبيع الأثاث أولًا لتعارض فكرته. عندما قررا الطلاق، لم تتخيل أن يكون هادئًا وغير أناني. تخيلت أنه سيمارس أنانيته حتى النهاية. لكنه ترك لها عملية البيع بأكملها ليقتسما المال بعد الانتهاء من بيع كل شئ.
كانت تتمنى أن يكون اليوم الثالث آخر يوم لأنها قد ملت استقبال الناس. ذهبت لتجلس في غرفتها المفضلة. الجدران باللون السيمون الفاتح وقطع الأثاث الأرابيسك القديم. تحب كل قطعة أثاث في تلك الغرفة ما عدا اللوحة التي علقها هو في مواجهة النافذة. لم تعترض على تعليقها لكنها لم تر التشابه بينها وبين المرأة في اللوحة. تكره شعرها المعقوف عند رقبتها. يعطيها ذلك الانطباع بالهمجية وعدم الاكتراث برأي الشخص الذي ينظر إلى اللوحة. صمم على بيع اللوحة مع الأثاث وهي لم تعارضه مع أنها تعلم أهمية تلك اللوحة له. بالنسبة إليه هي الأولى من إشارات كثيرة كلها أكدت حتمية وجود كل منهما في حياة الآخر. تجلس وتنظر الى اللوحة. تنتظر شخصًا ما يأتي ويأخذها بعيدا عنها. تفكر أن اللوحة تصف علاقتهم جيدا: بلا اسم.
سَحَرْ
كانت متحمسة جدًا لبدء مشروعها الجديد. اقترح أحد أصدقائها أن تعطي دروسًا خصوصية لأنها كانت بحاجة إلى المال للسفر إلى إيطاليا. أعجبتها الفكرة وبدأت في أخذ الخطوات الأولى لتستعد لها. اقترحت أمها أن تعيد تنظيم ديكور غرفة المعيشة ليتسع المكان لوضع شيلو أخر في الغرفة. سمحت لها بإعادة طلاء الغرفة و تغيير الأثاث إذا أرادت.
أعادت طلاء الغرفة بلون بيج فاتح وتركت المكتبة في مكانها. بدلت مكان مكتبها، فوضعته في مواجهة النافذة بستائرها الجديدة. قررت بيع الأريكتين القديمتين لشراء أريكة أرابيسك كانت قد رأت إعلان بيعها في النادي. ذهبت لشراء الأريكة الجديدة بعدما انتهت من بيع الأثاث القديم. اشترت معها منضدة أرابيسك صغيرة لتضعها في ركن بجانب الاريكة، ولوحة زيتية دون اسم. وضعت اللوحة على الجدار المواجه للمكتبة فأعطت ألوانها الساخنة دفءً للغرفة. كان لون عيون المرأة في اللوحة هو نفس درجة لون خشب الشيلو الذي أخذ مكانه في منتصف الغرفة فوق سجادة يدوية.
صباح اليوم، أتى أصدقاؤها لرؤية الغرفة الجديدة. كانت قد وجدت للتو الاسم المناسب للوحة. كتبته على ورقة بيضاء صغيرة ولصقته في الركن الأسفل للبرواز. أشعرها هذا التغيير البسيط أن الغرفة قد اكتملت. هنأها أصدقاؤها على ذوقها وعلى تناسق الألوان. لكن أحدًا لم يلحظ الورقة الصغيرة أسفل البرواز. بعد مغادرة الجميع، لم تبق غير أقرب صديقاتها. سألتها باستعجاب إذا كانت قد أسمت اللوحة على اسمها. ضحكت حتى آلمتها عضلات بطنها. أجابتها بلمعة في عينيها محاولةً تهدئة ضحكتها: "سميتها سِحْرْ".
تعليقات
ومن غير مجاملة علشان أنا مليش في النفاق اللي بيسموه ذكاء اجتماعي
:)
كنت لسه بجيب في سيرتك النهاردة الضهر... اتبسطت أووي لما دندنة قالتلي ان مدونة خلخال اللي دخلتها من عندي كنز رائع فضحكت وقولتلها أنا عترت عليه بالصدفة واتبسطت أووي بيه
عارفة لما يقع تحت ايدك كتاب بالصدفة ولما تقرييه يخدك لمكان تاني ويشدك لعالم رائع أهي مدونتك دي كده فعلا
وصدقيني من غير مجاملة
على فكرة البوست العبقري الثري المتجانس المتسلسل ده هو اللي خلاني أقوك الكلام ده
شكرا على كلامك الجميل, يا رب حد يخلي يومك حلو زي ما خليتي يومي.
بتكتبى الحاجات دى إزاى
عايزة أشوفك مرة وإنتى بتكتبى
بجد
أنا إستمتعت فعلا
زى ماتسنيم قالت إحنا كنا بنتكلم عليكى وبجد إنتى ثرية جدا بالحكايات
وليكى طريقة مميزة ف الحكى
شكرا ع الوقت الجميل اللى بقضيه هنا
Zou, you have an exceptional talent, and you really impress me everytime!
يا ريت تزور المدونة تاني
شكري العميق