قواقع


أوقظتني رائحة مألوفة, رائحة تأتيني مع فجر كل يوم, تدغدغ انفي و توقظ حواسي و تفتح مسامي كلها لتتنفس هواء جديد. اول مرة استنشقت هذه الرائحة شلت افكاري و تجمدت اطرافي و كان صوت دقات قلبي الشئ الوحيد الذي اعلمني انني مازلت هنا. بالتدريج بدأت ائلف قدوم الرائحة لايقاظي. بدأت اشتاق اليها. كنت احبي ببطء حتى بدأت في أخذ خطواتي الاولى من تقبل غزو الرائحة لقلبي و عقلي. بعد أن كنت ابقى في السرير متكورة كجنين عملاق مغلقة عيناي, بدأت اجلس في مكاني و افتح عيناي قليلا. اخذت خطوة اخرى و قررت أن اقف عند النافذة التي تحمل الرائحة اليّ كل فجر. بعد صراع و تردد تركت نفسي لرائحتها. تركت نفسي اتبعها الى اي مكان تأخذني اليه. رفضت أن اخضع لخوفي من لقائها فارتديت فستانها الابيض المفضل و صندل جلد و لففت وشاحها القطني حول رقبتي. امسكت باللؤلؤة ااتي اهدتها اليّ لأمنع نفسي من فتح الباب بعد أن رن صدى اغلاقه في اذني.

لم تتعلم التمييز. كم حاولت أن ازرع فيها هذه العادة لكنني اعتقد أن انفها لم يعرف الانسجام مع باقي حواسها. حتى اقوى الروائح مثل المسك نادرا ما استطاعت أن تتذكر اسمها. لكنني كنت اعرف حيدا انها ستتعرف على رائحتي. استدرجتها. اعرفها جيدا. اعرف انها كانت ستتبع الاشارات لتصل اليّ. لا شئ يقهر احساس الانسان بالاحتياج. قد ملئ روحها هذا الشعور فلابد ان تأتيني لانه كان مر وقت طويل, طويل جدا.


لم اشعر بقدماي و هي تتحرك. لم تكن شريطة الصندل مربوطة حول كاحلي باحكام و كان صوتها و هي تمسح الطريق الاسفلتي الصوت الوحيد حولي. اتبعت الرائحة لتأخذني بعيدا عن الطريق الاسفلتي و العمارات و الشاليهات الخالية. خلعت الصندل من على قدماي عندما وصلت الى بداية الرمال و غمستهم في دفء الحبيبات البيضاء الناعمة. تنفست رائحة الامواج قبل رؤيتها. و عندما وصلت الى مياه البحر حاولت الامساك بالزبد الابيض الذي يولد كل ثانية من تعانق موجتين. كان الشعور بالعجز عن امساك الزبد مثل محاولاتي الفاشلة للامساك بها او ذكراها عندما تأتيني رائحتها. و كنت اعرف جيدا أن قدومي الى هذا المكان لم يكن الا أخر هذه المحاولات.

انا التي علمتها المشي بقدمين حافيتيين على الرمال. لم تقتنع أول مرة رأتني أفعل ذلك, لكنني كنت أمل أن تجرب مرة واحدة لتعرف هذا الاحساس. اشعر بخوفها من اتباع رائحتي لانها دوما تفضل الهروب. لكنني اشعر أن شوقها اليّ لن يبعدها اكثر من ذلك. اشتاق الى احتضانها اكثر من اي شئ.


كان المشي على الشاطئ معها يختلف عن المشي للبحث عنها. بدات الشمس في الظهور و شعرت باشعتها المتوهجة على جلدي. كانت السماء خليط من الابيض و السماوي و الزهري. لم تتركني رائحتها. تتبعت خطواتنا معا و اخذت في التقاط القواقع كما كنا نفعل دوما. وجدت قواقعنا المفضلة بسهولة عن غير عادة. وجدت واحدة بعد كل بضع خطوات, كل واحدة تؤدي الى الاخرى. اتبعت القواقع لأرى الى اين تأخذني.

كانت تجمع القواقع من صغرها. كانت تضعهم على اذنها و تسمع بتركيز ثم تضع شفاها عليهم و تهمس باسرار و حكايات. سألتها و هي صغيرة بماذا تذكرها القواقع فأجبتني بجد شديد "بيكي". سألتها و أنا اضحك كيف؟ شرحت لي و هي خائفة أن اكون اسخر منها أن إلتوئات القواقع تذكرها بتموجات شعري. عندما اصبحت امرأة تأخد اولى خطواتها في الحياة سألتها نفس السؤال. صمتت. رأيت نفس الخوف, الخوف من أن اسخر من افكارها لانها طفولية كما اسمتها. رمقتها بنظرة تعرف معناها جيدا فاجابتني: المرأة. بدون أن اسألها شرحت لي لماذا. قالت لي بصوت مرتجف أن المرأة مثل القوقعة, يمر بها أناس كثيرون متجاهلينها, وإن راؤها لا يروا الا جمالها الخارجي فقط, فلا ينظروا اليها على انها رحم و سكن لكائن ما و انها تعرف اسرار لا يعرفها احد و تهمس بها لكن لا يستمع احد.


مررت بمراكب صيد مقلوبة و صيادون يدفعون بمركبهم الى ما بعد الافق. يتحركون كجسد واحد. اتذكر كم مررنا بصيادون يدخلون الى البحر و اخرون و هم يخرجون و معهم شباك تنبض بانواع و احجام من السمك. فرضت عليّ ذاكرتي أن اتسأل اذا كانوا نفس الصيادون. تجاهلت الاسماك الصغيرة التي تركوها على الرمال و اخذت امشي لا اعرف الى اين, متبعة رائحة تسكرني بذكريات وددت لو نسيتها و كمية لا بأس بها من كلمة "لو".

اخذتها لنصتاد مرة واحدة فقط و بعد ذلك اعدلنا عن الصيد. تركناه الى من اتقنوه و اتخذوا منه عمل يومي. فكانوا لنا كآلهة قادرون على فعل ما عجزنا او ما تكاسلنا عن فعله. دائما ما كانت تقف لتجمع الاسماك الصغيرة من على الرمال لتطعمها للقطة السوداء التي كانت تسكن اسفل البناية. كانت دائما تسألني لو لم نأخذ السمك ماذا سنطعم القطة؟ كنت انا اشرح لها أن "لو" لا تفيد بشئ. لكنني اعرف أن كلامي لا يفيد هذه المرة. فأنا ذهبت تاركة ورائي المئات من تلك الكلمة القصيرة.


لم اشعر بقدماي و هي تتوقف. شعرت أن عقلي قد محي تماما. كان قلبي يبعث/يرسل ارشادات الي ساقيّ بدل من عقلي. كنت و انا لا ادري قد تركت الرمال و كنت امشي على طين حديقة لا اعرفها. كان وجود شجرة المانجو الصغيرة وسط الزهور و النخل الصغير غريب. في أي يوم أخر كنت سأندهش لوجدها. لكنني كنت اتوقع وجودها اليوم. و حتى لو كانت اختفت بعد ذلك لن اندهش.
جلست بجانب الشجرة و حفرت حفرة صغيرة بأصابعي. خلعت اللؤلؤه من حول رقبتي و وضعتها في الحفرة. وضعت على اذني قوقعة كنت التقطها و أنا امشي. استمعت بكل حواسي. و عندما توقف الهمس الدافئ وضعتها مع اللؤلؤة و غطيتهم بالطين ثم قبلته. أخذت بعض منه في اصابعي و وضعتهم في فمي. تذوقف طعمه من جديد و ابتلعته ببطء.

الأن فقط تعرف السكينة. لن تسألني بين اهاتها و هي تشهق لماذا رحلت. لن تبكي و هي تأكل حبة مانجو بعد الأن و لن تغضب من نفسها لانها اوقعت شئ على ملابسها البيضاء. سألتني مرة لماذا لم اوبخها عندما تأكل الطين. لأنني كنت اعرف انها ستتوقف عن اكله يوم ما من نفسها. اكاد أن اتذوق طعم الطين الذي لم اكله منذ زمن عندما دفعني الفضول لاعرف سر حبها له. اعلمها أن القواقع تذكرني بشئ أخر, بأصابع يدها و هي تمسك بعجينة فخار لدنة لتصنع منها قلل لنشرب منها في الصيف.


لم اغسل الطين من على الفستان الذي كنت ارتديه. ذهبت الى النوم لكنني استيقظت على رائحة مسك من مبخرة جاراتي. لم انزعج. سعدت لانني تذكرت اسم الرائحة, فتركت النافذة مفتوحة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

زيت على كانافا

صورة يوسف

The Madness of Mrs. Woolf